بسام عبد السميع يكتب: دموع المودة تسأل: من أنا لأقف على أعتابكم؟


الثلاثاء 27 مايو 2025 | 03:58 مساءً
بسام عبد السميع
بسام عبد السميع
بقلم: بسام عبد السميع

كان مساء الخميس هادئًا، حتى إن النداء لم يأت بصوت، بل تسلل إلى القلب همسًا مرددًا: 'مشتاق.'

تلك الكلمة وحدها كانت كفيلة بفتح باب في السماء، لتبدأ الرحلة… لا على درب من حجر، بل على طريق من نور، ممهور بإشارات القدر، لمن صدق في النية.

في صباح السبت الماضي، انطلقنا صوب الأماكن التي لا تُزار بالأجساد وحدها، بل يُؤذن بدخولها بالحب والخشوع.

كان الطريق مُيسرا، والسماء متهللة، كأنها تبتسم للقلوب التي تمضي نحو الطهر.

وجهتنا الأولى كانت ريحانة النبي، سيد الشهداء، الإمام الحسين -عليه السلام-.

وبالقرب من المقام، لم تكن خطواتنا تمشي على الأرض بقدر ما كانت الأرواح تُقاد على بساط من نور، وكأن المكان يختبر صدق النوايا قبل أن يفتح أبوابه.

في تلك الساحة المغمورة بخشوع قديم، حيث تختلط الأنوار بندى الدموع الأولى، أدركتُ أننا لا نقف أمام حجر أو بناء، بل أمام أثر من الأزل، نُسج من دمعة فاطمة -عليها السلام-، ومن شذى نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن صبرٍ لم ينكسر، رغم السيف والعطش.

ما ألقينا السلام بألسنتنا، بل أسلمنا قلوبنا، كأن المقام لا يستقبل الداخلين إلا عراة من الغرور، محملين فقط بالحب والخشوع.

شممتُ في هواء المكان رائحة كربلاء… رائحة الصبر، واليقين، ونداءها الخالد: الحسين.

لم أرَ ضريحًا، بل نافذة إلى عالم آخر، حيث تسكتُ اللغة، ويبدأ الحديث بالنور.

دخلنا المقام الشريف بخطى خفيفة، كمن يخشى أن يوقظ هيبة المكان.

في حضرته، تسكن الأصوات، ويبدأ القلب بالإنصات.

لم يكن مجرد مقام، بل مدخلًا إلى كربلاء… شممت رائحة الصبر واليقين ونداءها كربلاء الخالد: الحسين ، وفقهتُ ما حدث، أو هكذا بلغني المعنى.

وقفنا أمام مقام يفيض سكينة، فكانت كل لحظة فيه استغاثة بميراث من الصبر والدمع الطاهر.

أمام مقامه، همستُ في داخلي:

'يا حسين، ما أعظمك عند الله، حتى جعل حبك طوق نجاة.'

وعند مغادرة المقام، سكبتُ دموعًا، لا من العين، بل من الروح ذاتها.

وكان السلام هناك ليس تحية، بل عهد.

ثم مضينا… بأقدام عطشى لمزيد من النور.

كانت وجهتنا الثانية مقام السيدة زينب -عليها السلام-، صوت الصبر ولسان الثبات، أخت الإمامين، سيدا شباب أهل الجنة.

في الطريق، جاءنا عبر الهاتف صوت أخٍ وصديق صادق الود، قائلاً:

'اجعلوني في دعائكم… أنتم في رحلة وعي'، فشعرنا أن الأرواح تتعانق عبر المسافات، وأن المحبة لا تحتاج إلى جسد كي تصل.

وعند مقامها الشريف، أحسستُ أنني أُعود إلى حصن افتقدته منذ دهر…

حصن السكينة والاطمئنان، فهمستُ: يا أماه… علّميني صبرك، يا آية الصبر وملاذ الثبات.

كنتُ في هذه الرحلة بصحبة رجلٍ من أهل البصائر، لم يكن فقط رفيقا، بل نورًا يُضيء الدرب بنور آل البيت.

هو صاحب الفضل في هذا الطريق، عرفناه على يديه، وتنفسنا هواء أرواح الصالحين من صدق وجدانه ونبل ودّه.

هناك، أمام المقام، وقفنا معًا، ونسيم المكان يلامس وجوهنا كيد غير مرئية تنثر علينا البركة.

اقترب هو، بلا صوت، كأن الأرض تعرفه وتمنحه طريقا خاصا. انحنى بقلبه، قبل أن ينحني بجسده، ثم همس كمن يخاطب الأبدية:

'من أنا حتى أسلّم عليكم؟

من أنا حتى أقف على أعتابكم؟

يا سلالة الطهر… يا بقية النبوة!'

فاضت عيناه بدمعٍ لا يشبه الحزن، بل يشبه الانتماء… دمع من عثر أخيرا على مرساه بعد ضياع طويل.

ثم التفت إليّ، ونظرته كانت تحملني إلى عوالم أخرى، وقال:

آل بيت النبي بيننا… فكيف نُعرض عنهم؟ .. هم النور، ونحن في الظلمة… من عرفهم عرف الله، ومن أحبهم، أحب كل ما هو طاهر وجميل.

عاد بصره إلى المقام، وخرج من شفتيه دعاءٌ يشبه المطر في رقّته وعمقه: اللهم لم يطلب رسولنا منا أجرًا على دعوته، إلا المودة في القربى… وها نحن نضع قلوبنا بين أيديهم.

ثم ساد صمت…

صمت يشبه لحظة خلق.

ولم يكسره إلا صوت الأذان ينساب من مآذن القاهرة، كأنما يشهد على عهودنا، ويُؤمّنُ على حبنا.

وفي نهاية الدعاء، قال وهو يبتسم بطمأنينة من ذاق القرب: اللهم ثبتنا على محبتهم…وابعثنا في زمرتهم…فما خاب من أحبهم، وما ضلّ من سار على نهجهم.

خارج المقام، جلسنا في ركنٍ من المسجد، خلف رجل يحمل أوراقًا ممهورة بالصلاة على النبي. وجهه يشع نورًا من عشقٍ لا يُخفى. التفت إلينا قائلًا: هذه رسائل من الحبيب.

فهمست: يا الله… رسائل من الحبيب!.. ما هذا العطاء؟ ما هذا الرضا؟ يا الله، ما أوسع كرمك!'

فتح الرجل أوراقه، وكأنها بريدٌ من الغيب…كل ورقة نور، وكل اسم يُكتب فيها كأنه حُجز له مقعد في ركاب المحبة.

كان اسمه 'مختار'، ولقبه 'مختار الصلاة على المختار'. وله مع المختار حكايات أقلها الصلاة المليونية فقد مهر الأوراق بـ 25 مليون صلاة على خير البرية.

كأن كل شيء في هذا اليوم وُضع بلطفٍ إلهي في موضعه.

وقبيل أذان الظهر بلحظات، عدت إلى المقام. دعوتها من أعماق القلب:

'يا كريمة الدار، يا من شهدتِ الجراح…علميني الصبر، يا آية الثبات.'

دعوتُ، بكيتُ، وخرجت، وقد خُتم على قلبي بختمٍ لا يُرى، لكنه يُحسّ…

وكأن السماء همست: قد سمعناك.

عدنا من الرحلة نحمل شيئًا أثقل من الذكريات… أثر الزيارة.

الطمأنينة. ثم استدعى رفيقنا سؤال لوالدته الراحلة غفر الله لها حينما قالت له: ماذا لو أن ملائكة تسجيل الأعمال غير موجودة ، أنعبد الله، أنعبد الله من أجل الجنة؟ أم خوفًا من الكتبة؟ أم لأننا نحبّه؟ أنحتاج مع الله شهود على عبادتنا؟

لم يجب أحد… لأن الجواب لم يكن في الألسنة، بل في القلوب.

وعندما وصلنا إلى داره العامرة بالنور، عقدنا عهدًا:

أن من نُجّي من النار، يشفع لأخيه… وأن لا يترك أحدٌ منا أخاه يوم اللقاء.

عادت الأجساد إلى حيث تسكن، لكن القلوب بقيت هناك… معلّقة على أبواب الطهر، لا تريد رجوعًا.

ذلك اليوم…

لم نزُر مقامًا، بل زارنا النور.

لم نقف عند ضريح، بل سجدنا عند أبواب المحبّة.

وكانت البداية عند الحسين،

والخاتمة عند زينب،

وبينهما…

كُتب العهد.

عهد لا يذبل…

ولا يُنسى.

بسام عبد السميع يكتب: " ذكرياتي مع العيوطي".. رواية بمشاركة 41 كاتباً 

بسام عبد السميع يكتب: نيويورك ورحلة الخطوط السعودية ( SV23- SV22)