حين يتحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبته في الفوز بجائزة نوبل للسلام، قد يبدو الأمر في البداية مجرد طموح سياسي أو بحث عن مجد شخصي. لكن هذا الطموح كان بالنسبة لي مدخلًا لاكتشاف أعمق: أن فوز ترامب – إن تحقق – لن يكون خروجًا عن المسار، بل امتدادًا طبيعيًا لمسار تاريخي طويل يكشف حجم الهيمنة الأمريكية على واحدة من أرفع الجوائز العالمية.
بالعودة إلى القوائم الرسمية لجائزة نوبل، يتضح أن عدد الفائزين من الولايات المتحدة بلغ 407 فائزين، أي ما يعادل 42% من إجمالي 976 فائزًا منذ عام 1901. هذه الأرقام تضع واشنطن في موقع الصدارة بفارق شاسع عن بريطانيا (نحو 130)، وألمانيا (أكثر من 100)، وفرنسا (قرابة 70)، ثم السويد (حوالي 30). وهكذا تصبح نوبل، التي أرادها مؤسسها تكريمًا عالميًا للمعرفة والإنسانية، مرادفًا للتفوق الأمريكي في العلم والفكر والسياسة.
منذ انطلاق جوائز نوبل عام 1901 وحتى اليوم، تم منح 627 جائزة في مختلف الفروع، وبلغ عدد الأفراد الفائزين 976 شخصًا، إلى جانب 28 منظمة نالت هذا التكريم العالمي، ما يعكس مكانة الجائزة كأرفع وسام للإنجازات العلمية والأدبية والإنسانية.
المفارقة أن الولايات المتحدة بدأت في حصد نوبل مبكرًا، منذ عام 1906، أي قبل أن تتحول إلى قوة عظمى سياسيًا وعسكريًا. هذا يكشف أن الهيمنة المعرفية سبقت النفوذ الجيوسياسي. فالولايات المتحدة استثمرت مبكرًا في جامعاتها الكبرى مثل هارفارد وستانفورد، وأقامت مراكز أبحاث متقدمة، ووفرت بيئة من الحرية الأكاديمية جذبت عقولًا من الشرق والغرب.
في المقابل، ظلت مجتمعات أخرى – وعلى رأسها المجتمعات العربية والأفريقية – شبه غائبة عن هذا السجل، بسبب ضعف الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وغياب البيئة الحاضنة للإبداع.
رغم رمزيتها، لم تكن نوبل بعيدة عن السياسة، فقد تم إجبار ثلاثة علماء ألمان على رفضها في عهد هتلر، كما جرى إكراه الكاتب الروسي بوريس باسترناك على التنصل منها عام 1958. أما الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر فرفضها عام 1964 طوعًا لأنه لم يقبل التكريم الرسمي، فيما اعتذر الفيتنامي لي دوك ثو عام 1973 عن تسلمها بدعوى أن السلام لم يتحقق في بلاده. هذه المواقف تكشف أن الجائزة كثيرًا ما وجدت نفسها عند تقاطع المثاليات مع ضغوط السياسة.
انطلقت جائزة نوبل عام 1901 تنفيذًا لوصية الصناعي السويدي ألفريد نوبل، الذي خصص معظم ثروته لتكريم من يقدم "أعظم فائدة للبشرية". بدأ المشوار مع الشاعر الفرنسي سولي برودوم كأول فائز في عام 1901، ثم الكاتبة السويدية سلمى لاجرلوف كأول امرأة تفوز بها عام 1909. لكن مع مرور العقود، انتقلت البوصلة من أوروبا إلى أمريكا، التي سرعان ما سيطرت على مشهد الجوائز، خصوصًا بعد الحربين العالميتين.
جائزة نوبل للسلام ارتبطت بعدد من الرؤساء حول العالم: المصري محمد أنور السادات (1978)، الكوري الجنوبي كيم داي-جونغ (2000)، الفنلندي مارتي آتيساري (2008)، والكولومبي خوان مانويل سانتوس (2016).
لكن الهيمنة الأمريكية تبقى الأوضح: أربعة من رؤسائها فازوا بالجائزة – روزفلت (1906)، ويلسون (1919)، كارتر (2002)، وأوباما (2009)، ولو أضيف ترامب إلى القائمة، سيصبح خامسهم، ما يؤكد أن حضور الولايات المتحدة في نوبل لا يقتصر على العلماء والأدباء بل يشمل قادة البيت الأبيض أيضًا.
على الجانب العربي، يظهر الحضور متواضعًا للغاية: ثمانية فقط فازوا بنوبل – السادات (1978)، نجيب محفوظ (1988)، أحمد زويل (1999)، محمد البرادعي (2005)، ياسر عرفات (1994)، توكل كرمان (2011)، نادية مراد (2018)، والرباعي الراعي للحوار التونسي (2015). كما برز اسمان من أصول عربية هما الطبيب اللبناني الأصل بيتر مدور (1960) والعالم إلياس جيمس خوري (1990).
هذا الرقم الهزيل يزداد وضوحًا حين نضعه في سياق الواقع الديموغرافي والجغرافي: العرب يشكلون 5.5 % من سكان العالم (450 مليون نسمة من أصل 8.1 مليار)، ويسيطرون على 8.9% من مساحة اليابسة (13.9 مليون كيلومتر مربع من أصل 148.9 مليون). ومع ذلك، لا يمثلون سوى أقل من واحد في الألف من إجمالي الفائزين بنوبل.
أراد ألفريد نوبل بجائزته أن تُمنح لمن يقدم أعظم خدمة للبشرية، لكن قراراتها أثبتت أن السياسة كثيرًا ما حضرت في الكواليس. فهي كرّمت رموزًا إنسانية مثل مانديلا والأم تيريزا، لكنها أثارت الجدل حين منحتها لشخصيات مثيرة للانقسام مثل هنري كيسنجر. واليوم، مع طموح ترامب المعلن، يُطرح السؤال من جديد: هل ستبقى نوبل وفية لوصية مؤسسها، أم ستظل مرآة لميزان القوى الدولي، حيث أمريكا أولًا حتى في أرفع أشكال التكريم الفكري والإنساني؟