اليوم، عقب تأدية صلاة الفجر في المسجد النبوي ، قصدت البقيع كما اعتدت في كل مرة يكرمني ربي بزيارة المدينة المنورة لكن هذه المرة وجدت الممر مفتوحًا حتى آخره على غير العادة. لم أختر أن أسير حتى نهايته، لكن الطريق ساقني، وكأنّ الأقدار رتبت أن أطيل النظر إلى هذه الأرض المباركة، حتى آخر صف من صفوف القبور. لم تكن زيارة عابرة، بل شعرت أنّها دعوة للتأمل، رسالة صامتة تقول: “قف هنا قليلًا، وتأمل أول منازل الآخرة.”
سرت في صمت، تتثاقل خطواتي شيئًا فشيئًا، وكأن كل قبر يناديني: “كنا مثلك، وكما جئتنا ستلحق بنا.”
البقيع في اللغة هو المكان الذي فيه شجر كثير من نوع واحد، أما الغرقد فهو نوع من الشجر الشوكي الذي كان يكثر في تلك الأرض. كانت قطعة أرض خارج المدينة شرق المسجد النبوي، تنبت فيها شجيرات الغرقد، حتى اختارها النبي ﷺ لتكون مقبرة للمسلمين، فأزيلت أشجارها للدفن مكانها، وصارت أول مقبرة إسلامية للمسلمين في المدينة. ومع توسع المدينة على مرّ القرون صار البقيع اليوم في قلبها تمامًا، يزوره أهل المدينة وزوارها كل يوم، للاعتبار وتذكر الآخرة والسلام على من دفن فيه والدعاء لهم.
اختيار النبي ﷺ لهذا المكان ليس أمرًا عاديًا، فقد جعله أول منازل الآخرة لأصحابه، فيها يدفنون ومنها يُحشرون، وقد دُفن فيه عشرة آلاف من الصحابة الكرام، حتى سُمي لكثرة من دفن فيه من الصالحين: جنة البقيع.
ويقال إن مساحة البقيع اليوم تبلغ نحو 180 ألف متر مربع، تضم 42 حوضًا أو مربعًا يضم القبور. هذه المساحة الشاسعة ليست مجرد أرض، بل هي سجلّ حيّ للتاريخ، وميدان للرحمة الإلهية التي تتنزل على أهلها كل يوم.
من يرقد في البقيع
يضم البقيع رفات عشرة آلاف من أصحاب النبي ﷺ، منهم بعض أمهات المؤمنين، وبنات النبي ﷺ (رقية، أم كلثوم، زينب)، وابنه إبراهيم، وعثمان بن عفان رضي الله عنه (ثالث الخلفاء الراشدين)، وعشرات من كبار الصحابة، وأجيالًا متتابعة من التابعين والصالحين.
وكان رسول الله ﷺ يزور البقيع ويدعو لأهله بأمر من الله عز وجل، حتى قال:' السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». وفي حديث طويل قال فيه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم'.
وهذا الدعاء خاطرني قلبي بانه يشمل كل من دفن هناك، ومن يلحق بهم إلى يوم الدين، وهو شرف لا يضاهيه شرف. وأنا أمشي بين القبور، أدركت أن البقيع ليس حكاية من الماضي فقط، بل هو مشهد متجدد كل يوم. كل يوم يموت أناس من بيننا — جيراننا، زوار المدينة، الحجاج، المعتمرون، طلاب العلم — فيُصلّى عليهم في المسجد النبوي، ثم يُدفنون هنا، لينضموا إلى صحابة رسول الله ﷺ وأمهات المؤمنين والتابعين والصالحين، ويصيروا رفقاءهم حتى يبعث الله من في القبور.
كنت أنظر إلى جموع الزوار الذين يدخلون البقيع بعد كل صلاة مفروضة، بالآلاف، يسلمون على أهله ويدعون لهم، وقلت في نفسي: كأنّ هذه الجموع شهادة يومية تقول لنا: “هؤلاء هم الناجون المختارون، هؤلاء هم الذين سبقوكم، هؤلاء هم الذين رضي الله عنهم فاصطفاهم ليكونوا أول الرابحين يوم الدين.”
هذا المشهد وحده كافٍ ليوقظ القلب من غفلته، ويجعلك تتهيأ ليوم تكون فيه أنت من يُصلّى عليه، ويُدفن في هذه الأرض، وينضم إلى هذه القافلة المباركة. وانا أمشي بين القبور في البقيع واستحضر من دفعوا فيه تنتابني هزة وقشعريرة على هذا المشهد المهيب سرّ الاصطفاء والكرم الإلهي
وقفت أتساءل: من هؤلاء الذين أصبحوا مجاورين لرسول الله ﷺ في الآخرة قبل البعث؟ من هؤلاء الذين صاروا رفقاء الصحابة في أول لحظات البرزخ؟
يا الله، يا الله… يا عظيم الكرم والعطاء! إنهم أناس عاشوا بيننا، ربما لم يُعرفوا بمال أو جاه أو علم، لكن الله نظر إلى قلوبهم فاختارهم لهذه الكرامة: أن تبدأ آخرتهم بجوار أحب الخلق إليه، وأن يفتحوا أعينهم بعد الموت على مقعد صدق عند مليك مقتدر.
تخيلت أرواحهم وهي تحاور النبي ﷺ، وتسمع خطاه، وتجاور أصحابه، قبل أن ينفخ في الصور ويقوم الناس لرب العالمين. أي مقام هذا! أي نعيم هذا قبل نعيم الجنة! وكأن الله يقول لنا: “هؤلاء نلتُ رضاهم، ورضوا عني، فجمعتهم بأحب خلقي منذ أول لحظة بعد موتهم.”
مشيت بين القبور والدمعة تسابق الخطوة، وقلبي يلهج بالدعاء: يا رب، يا رب… موضع في البقيع، موضع في البقيع. اللهم اجعل لنا فيه نصيبًا إن كان في ذلك خير لنا، كما يسّرت لنا السير فيه أحياءً. اللهم ارزقنا الموت في مدينة نبيك ﷺ، والصلاة علينا في مسجده الشريف، والدفن في جوار أحب خلقك إليك. اجعل قبورنا بين قبور أهله، أو اجعل لنا منزلة في جواره في الفردوس الأعلى. اللهم اجعلنا من الذين يشربون من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، ولا تحرمنا شفاعته يوم القيامة، ولا تجعل بيننا وبينه حجابًا، ووفقنا لاتباع سنته حتى نلقاك راضين مرضيين.
قلبي هناك ينتظر
خرجت من البقيع لكن قلبي بقي هناك، ينتظر اليوم الذي أعود فيه لا زائرًا بل جارًّا. شعرت أن هذه الزيارة لم تكن مرورًا عابرًا، بل نقطة تحول: دعوة أن أقلل من التعلق بما يفنى، وأن أزرع في كل يوم عملًا يقربني إلى تلك المجاورة المباركة. كل ما أريده الآن أن أكون ممن يختارهم الله لهذه المجاورة، أو ممن ينالون صحبة النبي ﷺ وصحابته في الفردوس الأعلى، في دار لا فراق بعدها أبدًا.
اللهم كما مننت علينا بزيارة البقيع أحياءً، فامنن علينا بجواره أمواتًا، واجعلنا في صحبة نبيك وصحابته في الجنة، ولا تحرمنا شفاعته يوم الدين

