يا ابن الطين، يا من جبلت يد الله صورتك من أديم الأرض، ثم نفخ فيك من روحه سر الحياة، اعلم أنك لست هذا الجسد الذي يمشي على الأرض، بل ذلك السر الذي يتوق إلى السماء.
إن الطين قيدك المؤقت، كسوة لا أكثر، لباس يسترك في امتحان الوجود، فإذا ضاق بك، فاعلم أنه يذكرك بأنك من عالم آخر.
كل وجع يطرق بابك ليس إلا مطرقة صغيرة على جدار الطين لتوقظ ما فيك من روح. كل دمعة تسقط منك، كل انكسار، كل خيبة، إنما هي محاولة رقيقة من الله ليقول لك: "انهض، إنك لست من هذا التراب وحده."
إن الألم في حقيقته نور يتنكر في هيئة وجع، كي يشق لك طريقا نحو ذاتك العليا.
حين تسقط الكسوة يا صديقي، لا يبقى إلا ما كنت تخفيه. الطين يسقط، ويبقى النور أو النار. فمن كان في داخله لهب الكراهية، تفجر اللهيب فيه يوم انكشاف الغطاء، ومن كان في قلبه بذرة الرحمة، تفتح النور حتى يعم وجهه، ويعود إلى منبعه كما يعود الماء إلى البحر.
يوم تسقط الكسوة، لن يسأل أحد: من شهد؟ ولا من حكم؟ إذ تشهد النفس على نفسها، وتنطق الجوارح بصدق ما خبأته الصدور.
هناك، حيث لا محكمة ولا قانون إلا الحقيقة، ويفرز الناس لا بحسب أسمائهم ولا أنسابهم، بل بما أضاء أو أظلم فيهم.
يا ابن التراب، إن كل شيء في هذا الكون يحن إلى أصله: الريح تعود إلى عليائها، والماء إلى مجراه، والنار إلى لهيبها، والنور إلى منبعه. وأنت، أنت أيضا، ستعود إلى ما خلقت منه: إن كنت من صانعي الشر والضرر، فالنار مسكنك، وإن كنت من نور الحب، فالنور وطنك الأبدي.
ليست هذه العودة موتا كما تظن، بل ميلادا آخر. فالموت ليس فناء، بل كشف للحقيقة حين ترفع الأستار ويسقط الوهم. هو لحظة يقظة كبرى، تنسل فيها الروح من عباءة الطين كما يخرج الفجر من عباءة الليل.
حينها تدرك أن الحياة كلها كانت مدرسة واحدة لتعلمك هذا الدرس العظيم:
أنك لست الجسد الذي يشيخ، بل الروح التي لا تموت.
فإذا رأيت من يسقط، فلا ترث لجسده، بل ادع لروحه أن تتذكر. وإذا رأيت من يتألم، فاعلم أن الله ينحت في قلبه بابا نحو النور. فما من وجع إلا وفيه رسالة، وما من موت إلا وفيه ميلاد جديد.
عندما تسقط الكسوة، لا تنطفئ الأنوار، بل تبدأ. حينها فقط تعرف من كنت، وتعود إلى حيث بدأ كل شيء: إلى النور الأول، إلى الحضرة التي لا ظل فيها، إلى الله.
إنها الحكاية القديمة: حكاية إزالة الكسوة الطينية. هي ليست موتًا، بل ميلادًا آخر، ليست فناءً، بل كشفٌ للحقيقة، حين تسقط الأقنعة ويغيب الظلّ، وتبقى أنت، أنت فقط، على ما أنت عليه منذ الأزل.