القرآن الكريم ليس كتابًا يُقرأ ليُحفظ، ولا أصواتًا تُتلى في المساجد، بل هو كونٌ يُتلى بالحروف ويُعاش بالحقائق.
كلماته ليست أحبارًا على الورق، بل نجوم تهدي القلوب في ليل الوجود، وحروفه ليست أصواتًا تُنطق، بل أنفاس حياةٍ تجري في سلوك المؤمنين.
إنّ كلّ آيةٍ من آياته بابٌ إلى معنى، وكلّ معنى طريقٌ إلى عمل، فالتلاوة لا تكتمل إلا إذا صارت تطبيقًا يبعث الحياة، فكما أن الكون يتجدّد كل لحظة بحركة الشمس والقمر والرياح، كذلك القرآن يُجدّد الحياة في القلوب والأبدان. فالتلاوة الحقيقية هي أن يُصبح القارئ صدىً للآية في الفعل، وأن تتحول الكلمة إلى حركة، والسمع إلى سلوك
الفرق بين القراءة الصوتية والقراءة الوجودية كالفرق بين من يصف القمر، ومن يسير في نوره. الأول يراه من بعيد، والثاني يعيش فيه.
القرآن كونٌ يُتلى، لانه زمنٌ دائم الحضور، لا ينفصل عن حركة الكون ولا عن حركة القلب.
في كل آيةٍ إشعاعٌ من نظام الخلق، وفي كل حرفٍ دورة حياةٍ جديدة، حتى ليبدو النصّ وكأنه كائنٌ حيٌّ يتنفس داخل الإنسان، لا يكتفي بأن يُقرأ، بل يُعيد القارئ نفسه من جديد
القرآن كونٌ يُتلى، لأن كلماته تسير في نظامٍ يشبه نظام المجرّات: فيه آياتٌ كالنجوم تهدي، وآياتٌ كالشمس تضيء، وآياتٌ كالمطر تُنبت الرحمة في القلوب.
لكن هذا الكون لا يُدرك إلا إذا صار في النفس حياةً وفي الواقع أثرًا؛ فـتطبيقه هو الخلود الذي تبقى به الإنسانية متصلة بخالقها.
القرآن ليس زمنًا مضى مع نزوله، بل حضورٌ دائمٌ يتجدّد بتلاوته وتطبيقه.
كل قراءةٍ صادقة تُعيد خلقنا، وكل عملٍ موافقٍ له يُعيد خلق العالم من جديد. فهو الكلمة التي لا تموت، لأنها من الله الحيّ الذي لا يموت، والوجود الذي لا ينطفئ، لأنه نورٌ يشعّ في النفس كلما أُضيئت بالتدبّر.
القرآن تُتلى كلماته في الأرض، فتتجاوب معها الكواكب في السماء، وكأنّ الكون كلّه يصغي لتلاوةٍ واحدةٍ أزليةٍ بدأت يوم قال الله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. ومنذ تلك اللحظة، صار الكون كلّه يقرأ: تقرأ الأشجار بتسبيحها، وتقرأ الجبال بخشوعها، وتقرأ القلوب بإيمانها، فما من مخلوقٍ إلا وله في هذا الكتاب آية وجودٍ وتلاوة حضور.
القرآن كونٌ يُتلى، من قرأه فتح نافذةً إلى السماء، ومن عمل به أقام جسرًا بين السماء والأرض. ومن تدبّره صار جزءًا من هذا الكون المتلوّ باسم الله، لا غائبًا عنه.
فلننظر جميعا كم من القرآن يسكن سلوكنا، وكم من آياته تمشي فينا ومعنا ،فعلى قدر ما نحيا به، يكون وجودنا في سجلّ الخلود،
إن القرآن الكريم كتابُ وجودٍ لا حدود له، تتردد كلماته في الفضاء كما تتردد النجوم في الليل، وتبقى تلاوته الحقيقية حين يصبح الإنسان نفسه آيةً تمشي على الأرض بنور الله. والسؤال الذي علينا أن جميعا التوقف أمامه : هل نقرأ القرآن لنسمعه .. ام نكون نحن صوته الذي تسمعه وتراه السماء؟