لم يعد الضجيج خلفية المشهد؛ لقد أصبح المشهد نفسه. والحقيقة لم تعد تقاس بوزنها ولا بدقتها، بل بقدرتها على صفعنا وإثارة صدمتنا. وكأن العقل البشري دخل مزاداً عالمياً تُباع فيه الانفعالات، ويعلو فيه سعر كل من يصرخ أعلى ويثير غضباً أكبر.
اقتصاد الانتباه يعني أن وقتك وتركيزك أصبحا سلعة يتم التنافس عليها، مثل النفط والذهب، وكلما زاد المعروض من المعلومات، أصبح التركيز أثمن وأصعب. وصار من ينجح في خطف انتباهك هو الرابح - حتى لو كان ذلك على حساب جودة النقاش أو الحقيقة نفسها-.
إن انتباهك مثل رصيد في بنك: لديك عدد محدود من الساعات في اليوم وعدد محدود من اللحظات التي يمكنك التركيز فيها. كل إشعار على هاتفك، كل منشور على وسائل التواصل، كل خبر عاجل يحاول أن "يسحب" جزءاً من هذا الرصيد.
هيربرت سيمون، الاقتصادي وعالم النفس الاميريكي، قالها بوضوح عام 1971:"وفرة المعلومات تعني ندرة في الانتباه."،أي كلما زادت المعلومات من حولك، صار تركيزك أصعب وأثمن.
ويعمل اقتصاد الانتباه من خلال العرض والذي يساوي كمية المعلومات والمحتوى الذي يتم ضخه يومياً (وهو هائل ومتزايد)، وأما الطلب فيتمثل في قدرتنا المحدودة على الانتباه والتركيز (وهي في تناقص )، أما سعر السلعة فهو الجهد الذي تبذله المنصات لجذبك (تنبيهات، فيديوهات قصيرة، عناوين مثيرة).
وكل منصة تحاول أن "تشتري" انتباهك، ليس لتحتفظ به مجاناً، بل لتبيعه للمعلنين أو لتستغلّه في توجيه سلوكك.
ونتيجة لهذا الاقتصاد تنتقل من معلومة إلى أخرى بسرعة، دون وقت للتفكير أو التحليل، ونعطي الأولوية لما يثير عواطفنا (صدمة، غضب، خوف) لأنه يخطف الانتباه أسرع، ونصبح أكثر عرضة للإرهاق الذهني، وأكثر قابلية للتأثر بالرسائل المبالغ فيها.
هذا هو وجه اقتصاد الانتباه الذي حذّر منه هيربرت ألكسندر سيمون قبل أكثر من نصف قرن. في عام 1971، حينما كتب أن وفرة المعلومات ستخلق ندرة في الانتباه، وأن ما تستهلكه المعلومات ليس وقتنا فحسب، بل وعينا ذاته. اليوم، تحققت توقعات سيمون بالكامل: الخوارزميات لم تعد تعكس مزاجنا، بل تصنعه فتقيس نبض الغضب، وتضاعف شدته، وتعيد ضخه إلى شاشاتنا لتصيغ من جديد طريقة تفكيرنا وسلوكنا.
سيمون، الذي رحل عام 2001، لم يكن مجرد اقتصادي؛ كان عالماً موسوعياً حاز جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية عام 1978 عن أبحاثه حول اتخاذ القرار داخل المنظمات. هذه الجائزة التي أنشأها البنك المركزي السويدي عام 1968 تأتي خارج وصية ألفريد نوبل لكنها تحظى بالمكانة نفسها في الأوساط الأكاديمية.
وقدّم سيمون نظريته الشهيرة عن العقلية المحدودة، مؤكداً أن الإنسان يختار ما يكفي حاجته لا ما يحقق الكمال. لكن في عالم اليوم، لم يعد "الكافي" يحدده العقل؛ بل يحدده حجم الصدمة التي يمكن أن تُحدثها الرسالة.
الخطاب المعتدل تبخّر من السوق الفكرية، وصعدت المبالغة لتصبح العملة الصلبة. كل شيء صار "الأعظم"، "الأخطر"، "الأوحد". هذه الكلمات لم تعد أوصافاً بل أسهماً مضاربة في بورصة الصراخ، حيث يقاس النجاح بعدد المشاركات والتعليقات الغاضبة لا بجودة الحجة، ونتيجة لهذه الظاهرة غاب التفكير العميق وتحول النقاش العام إلى منافسة على من يرفع الصوت لا على من يقدّم الحجة.
والمجتمعات ليست مجرد جمهور سلبي؛ بل هي المستثمر الأكبر في هذا السوق، فالناس يختارون الإثارة على التحليل، ويشاركون ما يثيرهم لا ما يثقفهم. فتلاحظ ان شخصاً- قد أصبح "البطل الأسطوري" اليوم، و"الخائن الأكبر" غداً - إنها عقلية أشبه بملاعب كرة القدم حيث الهتاف حال الفوز واللعن لحظة الهزيمة لتشاهد تبادل المقاعد في لحظة.
إن الخطر لم يعد في الضجيج نفسه، بل في تحوّله إلى معيار للحقيقة، فما يجذب انتباهنا نصبح أكثر ميلاً لتصديقه، حتى لو كان سطحياً أو زائفاً. ومع توقف اقتصاد الانتباه عن العمل السليم، تتدرّب أدمغتنا على أقصى جرعة من الإثارة وتفقد تدريجياً صبرها على خطاب العقل والتحليل.
إن المعركة اليوم، ليست في إسكات الصراخ بل في استعادة زمام الانتباه، وعلينا أن نتعلّم كسر ثنائيات "معنا أو ضدنا"، وأن نعيد إحياء التفكير النقدي كسلاح يومي في مواجهة التضليل والاستقطاب.
وأظن ان القرار الذي يمكن أن يتخذه أي فرد اليوم ليس ماذا يقرأ أو يشاهد، بل أين يوجّه انتباهه. فهذا القرار يصوغ أي نوع من العقول وأي نوع من المجتمعات سنصبح. وإذا استمر معيار الحقيقة في الانزلاق نحو من يصرخ أكثر، فقد نستيقظ على عالم مليء بالضجيج..فارغ تماما من الوعي.

