هادي التونسي يكتب ... القلق والانتقاد


الخميس 24 أكتوبر 2024 | 11:12 صباحاً
هادي التونسي يكتب ... القلق والانتقاد
هادي التونسي يكتب ... القلق والانتقاد
عبد الرحمن الدوسري

ان كنت تريد حياة ثرية فعالة فلتعش في الحاضر، لان الماضي دروس يجدر استيعابها حتي لا يكررها الدهر، و حتي نتجنب اختلاس الطاقة في صراعات مكبوتة تتفجر من حين لآخر في مواقف آنية. فإذا ما وعينا الدروس و تقبلنا مواقفنا و الإخرين بفهم واقعي متسامح وفرنا توترات الماضي و صنعنا معه سلاما بعد ان تعلمنا منه بالألم البناء، لكن ذلك لايكفي اذا لم نجنب اهدار الطاقة في قلق نحو المستقبل.

القلق خوف من مجهول حين نتعلق بهدف و نريد ضمان تحقيقه، فلا نستطيع تجنب التفكير الزائد و حل احتمالات قد تطرأ في طريق الإنجاز ، حتي و ان كانت تلك الاحتمالات لن تحدث كليا او جزئيا، فلماذا لا نثق بقدرتنا علي مواجهة الاحتمال وقت حدوثه؟ و لماذا لا نحافظ علي طاقتنا بتجنب حل احتمالات قد لا تحدث و قد يحدث غيرها مما لم نتحسب له ؟ لماذا لا نفكر في خطة عامة مرنة و نبذل لتحقيقها أقصي الجهد بارتياح طالما ان ذلك أفضل المتاح و نتوكل علي الله؟ الا نؤمن بالقدر و ان كل شئ بميعاد؟ هل نعرف ما يخبئه الغيب ان أنجزنا و اثبتت السنون اننا خاسرون بحدوث ما لم نكن نتصوره؟ و هل نضمن ان الله لم يكن يجهز لنا ما هو أفضل ان سلمنا وجهنا لجلاله؟ الا ندرك ان القلق يختلس الطاقة و الجهد و الوقت و يحرمنا راحة البال و صحة الجسد؟ الا نعلم ان الحياة منحة موقوتة مصيرها بيد الله وقتما و كيفما شاء؟ و ان علينا ان نتقبل انها مغامرة نرحب بها و نرتقي نفسيا و روحيا من اختباراتها الضرورية و الملائمة لنقوي و ننضج و نصفو و نسعد ، فتكون المشاكل فرصا لصالحنا بالنمو بالالم البناء؟ الامر إذن يتعلق بالتخلص من التعلق بالمواقف الايجابية التي نتخذها و نختار عواطفنا خارج الذات بمقتضاها، فإن حدث ذلك قضينا علي القلق تجاه المستقبل بعد ان حققنا السلام مع الماضي، فتتوفر الطاقة للحاضر نوجهها خارج الذات نحو حس أُرفِّه و وعي أعمق و اشمل لنتخذ قرارات اكثر صوابا و سرعة و حسما و ننجز بفاعلية و دقة و ارتياح بعد ان قضينا علي توترات الداخل.

اعجبني في العمل في بلدان متقدمة ان كثيرا من الناس يمتنعون عن إصدار الأحكام علي الاخرين. في البداية اعتبرت ذلك تأدبا و تعففا او عملا بمقولة بانه ان حكمت علي الاخرين لحكموا عليك، او من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.

لكن تذكرت في علم النفس خدعة الإسقاط التي تجعل شخصا يتهرب من التبصر بصفة تؤلمه فيه فيراها في الاخرين، مثل ان يكون الشخص كاذبا فيرمي الاخر بالكذب،و خدعة تشكيل رد الفعل حين يميل فاسد مثلا لان يري الاخرين فاسدين ليبرر فساده. و يزيد علي ذلك ان الفرد يدرك عادة في الاخرين قدر ما لديه و ليس اكثر ربما لانه لا يفهمه، فالمراهق مثلا لا يفهم دوافع و محبة والديه كاملة الا عندما ينضج ، فيتمني ان يرد صنيعهم حينئذ لو كانوا علي قيد الحياة، و مثل انه لو كان شخص تحركه المصالح و الاهواء صعب عليه ان يفهم من يتمسك بمبدأ او ينتمي لمغزي ينزهه عن الغرض. اضف الي هذا احتمال سوء الفهم حتي بحسن نية، او عدم تواجد معرفة كافية او عشرة، فحتي لو تميز شخص بصفة فيمكن الا يتحلي بها تحت ظروف ضاغطة. بل ان إصدار الأحكام علي الاخرين يجعل مخالطي ذلك الشخص يتوقعون انه سيصدر عليهم احكاما حتي في غيبتهم، و اذا كان الحكم سيئا او جارحا او قاسيا فهو يثير ربما مشاعر الكراهية او النفور او التحدي و الانتقام و يفسد علاقة بسبب ان القائل افتقد الحكمة و تمالك النفس و النزاهة و سعي الي الحط من قدر الاخر و السيطرة عليه.

لكل هذه الاعتبارات، فحتي لو كنت دقيقا متعمقا في الفهم امتنع عن إصدار الأحكام ، عالج المواقف موضوعيا، فالخلاف في الموضوع يمر لكن الخلاف الشخصي يبقي ،و لا يتغير شخص الا برغبته و بالقدوة و ليس عنوة، و لا تأبه بمن لا يلتزمون بانتقاء ألفاظهم ،ففضلا عما سبق فما يدينك هو ما تقله و ليس ما تسمعه. ابق الجسور مفتوحة و كن قدوة ليرتفع الاخر لمستواك بدلا من ان تهبط لمستواه، بل اعتبر المشاكل فرصا لتعلم الدروس و اختبارا لقدرتك علي تمالك الاعصاب، فالقوي يسهل عليه الالتزام بالفضائل و الموضوعية و السكينة فتكون كلماته محبة مسؤولة رحيمة موضوعية دون عنف او قسوة او تجاوز، و وطن نفسك ان تتقبل الناس كما هم، و ان تبحث وراء قسوتهم عن وحدتهم او خوفهم او عجزهم فتعذرهم ،و ان تجد في أعماقهم من الصفات الحميدة ما تقدره و تحبه و ترغب في تشجيعه و الأخذ بيده. و اعلم انك حين تفعل ذلك فإنك تربح ايضا ملء مشاعرك بالانفعالات الإيجابية التي تزيد الطاقة و التأثير و تسعد و تقوي مناعة الجسم.فإن فعلت الخير فإنه يعود اليك يوما ما بشكل ما، و في النهاية حسابك و حسابه عند الله.

د. هادي التونسي

طبيب و سفير سابق 

اقرأ أيضا