بسام عبد السميع يكتب: حين سأل الابن أباه


الخميس 16 أكتوبر 2025 | 11:04 مساءً
بسام عبد السميع
بسام عبد السميع
بسام عبد السميع

كان الليل ساكنًا بعد صلاة العشاء، والقمر يسكب نوره الخافت على فناء المسجد.خرج المصلّون واحدًا تلو الآخر، وبقي الأب وابنه في الصفّ الأخير، يتأملان صمت المكان.

كان الطفل يجفّف جبينه بكمّ ثوبه، وعيناه تتبعان الرجال وهم يسلّمون يمينًا ويسارًا قبل أن يغادروا. ثم التفت إلى أبيه بصوتٍ متهدّجٍ بالفضول وقال: “أبي… ما معنى ما نقوله في آخر الصلاة؟ التحيات لله والصلوات والطيبات؟”

ابتسم الأب، ووضع يده على كتف ابنه الصغير وقال بلطفٍ يليق بالمقام: “يا بنيّ، هذا الكلام ليس ختام الصلاة، بل قلبها النابض. حين نقول التحيات لله، فكل تحيّةٍ في الوجود — من سلامٍ أو تبجيلٍ أو احترام — هي لله وحده، لا تُوجَّه لسواه. ثم نقول الصلوات والطيبات، أي أن كل عبادةٍ وعملٍ طيّبٍ ونيّةٍ خالصةٍ هي له سبحانه. إنها كلمات تجمع القول والفعل والقلب في طريقٍ واحد نحو الله.”

ظل الطفل صامتًا لحظة، ثم قال وهو يحدّق في المحراب: “ولماذا نُسلّم على النبي يا أبي؟ أهو يسمعنا؟”

أجاب الأب، وصوته ينساب كهمس السكون في الليل: “حين تقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأنت لا تناديه بصوتك، بل بروحك.إنها تحية وفاءٍ لرسالةٍ باقيةٍ تنير الأرض، ثم تقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فدعاؤك هذا يصيب كل مؤمنٍ صالحٍ في السماء والأرض، كأنك تمدّ يدك بالسلام إلى كل قلبٍ طاهرٍ في هذا الكون.”

نظر الطفل إلى يديه الصغيرتين، ثم حرّك سبّابته كما يفعل في التشهد، وقال في براءةٍ صادقة: “أبي… ولماذا نرفع إصبعنا ونخفضه؟ أهي حركة أم معنى؟”

ابتسم الأب، وضمّ كفّ ابنه بين يديه، وقال بصوتٍ رقيق: “بل هي معنى يا بنيّ، وليست حركة بلا روح. حين ترفع إصبعك، فأنت تعلن أن الله واحد لا شريك له. يرفعها البعض عند قول لا إله ويخفضونها عند إلا الله، كأنهم ينفون كل باطلٍ ويُثبتون الحقّ. وآخرون يُحرّكونها في الدعاء تذكيرًا بأن القلب لا يتجه إلا إليه سبحانه. كلها سُنن صحيحة، والمقصود واحد: "أن يظلّ التوحيد حيًّا في اليد كما في القلب.”

أطرق الابن رأسه، وأخذ ينظر إلى إصبعه في تأملٍ طويل، ثم قال بهدوء: “كأن الإصبع يا أبي تحكي ما في القلب".

ربت الأب على كتفه وابتسم: “أحسنت، يا بنيّ، هي لغة القلب الصامتة.ًثم حين تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فأنت تُجدّد العهد كل ليلةٍ بأن لا سلطان إلا لله وأن محمّدًا ﷺ هو العبد الذي علّمنا طريق الحرية بالإيمان.”

سكت الأب لحظة، ثم أطرق رأسه خاشعًا وقال: “وبعدها نصلّي على النبي وآله، وهي ما تُسمّى الصلاة الإبراهيمية، فنقول: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. هذه يا بنيّ ليست كلماتٍ تُقال، بل دعاءٌ يحمل نور النبوّة من جيلٍ إلى جيل، نطلب فيه أن تمتدّ البركة التي أنزلها الله على إبراهيم وآله إلى محمدٍ ﷺ وآله، لتبقى الرسالة حيّةً ما دامت السماوات والأرض.”

نظر الطفل إلى أبيه بإعجابٍ صامت، وقال: “كل هذا في التشهد يا أبي؟!”

ضحك الأب بخفوت وقال: "بل وأكثر يا بنيّ، فالتشهد حكاية الإنسان مع ربّه، يبدأ بالتحية، ويمرّ بالتوحيد، وينتهي بالسلام على النبي وآله،ً ومن قاله بوعيٍ، خرج من صلاته إنسانًا جديدًا.”

نهض الأب، وأخذ بيد ابنه نحو باب المسجد.ًكان السكون قد اشتدّ، والنجوم تتلألأ في سماءٍ صافيةٍ يلفّها صفاء الإيمان. ومشى الصغير بجوار أبيه، يحرّك إصبعه في الهواء كما في صلاته، ويهمس لنفسه بثقةٍ طفوليةٍ رقيقة: "السلام علينا… وعلى عباد الله الصالحين".

بسام عبد السميع
الكاتب الصحفي بسام عبد السميع