ليست النبوةُ نسبًا يُورث، ولا مجدًا يُكتسب، ولكنها اصطفاءٌ من الله، ينزل على قلبٍ اختاره من بين الخلق . والأنبياءُ الذين قصّ الله خبرهم علينا، والذين لم يقصصهم، هم خيوط النور التي وصلت السماءُ بالأرضَ لئلّا تضلّ في الظلمة. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
فآدم عليه السلام هو البداية؛ خُلق من ترابٍ ثم نفخ الله فيه من روحه فصار خليفته في الأرض، ونوح أول من حمل راية الدعوة إلى التوحيد حين غمر الشرك وجوه الناس، فبعثه الله ليغسل وجه الأرض بالطوفان كما تُغسل الروح بالدموع. ومن بعده جاء هود وصالح، ثم إبراهيم الخليل الذي أخرج الله من صلبه سلالة النور، فأنبت من ذريته إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمدًا ﷺ، حتى صار إبراهيم أبًا للأنبياء، وغرسًا مباركًا امتدت أغصانه في الزمان كله.
ولوط عليه السلام، ابن أخ لإبراهيم عليه السلام ؛ آمن بدعوة عمه وهاجر معه ثم بعثه الله نبيًا إلى قومٍ طغوا في الفاحشة، فصار مثالًا على أن الإيمان الصادق باب النبوة، وأن القلب إذا صدق في اتباع الحق رفعه الله إلى مقام التبليغ.
وزكريا عليه السلام رفع يديه في محرابه شيخًا ضعيفًا، يقول في رجاءٍ مبلّل بالدموع:﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾، فأجابه الله بأن وهبه يحيى نبيًا طاهرًا، فكانت النبوةُ هنا ثمرة دعاءٍ صادق، لا ميراث نسبٍ ولا مجدَ بيتٍ قديم.
وكذلك موسى عليه السلام حين قال: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي • هَارُونَ أَخِي﴾، فاستجاب الله له وأشرك هارون في الرسالة، ليعلّمنا أن النبوة عملٌ جماعيٌّ تشترك فيه الأرواح الصادقة، لا مجدٌ فرديٌّ يعلو على الناس.
وقد ذكر القرآن الكريم خمسةً وعشرين نبيًّا ورسولًا، هم: آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسى، هارون، ذو الكفل، داوود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى، عيسى، ومحمد ﷺ. وهؤلاء هم الذين قصّ الله أنباءهم في كتابه، ومنهم من لم يُقصص علينا، كما قال تعالى: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾. ومن بين هؤلاء برز عشرة جمعوا بين النبوة والرسالة، أي أُرسلوا بشريعةٍ جديدة إلى أقوامٍ مشركين، وهم: نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وهارون، ويونس — وهو النبي الوحيد الذي آمن له قومه جميعًا — وعيسى، ومحمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين.
ولم يكن كل الأنبياء رسلًا، فلكلٍّ منهم مقامه ومهمته في سُلّم الهداية. فالرسول يُبعث إلى قومٍ ضلّوا الطريق، يحمل إليهم كتابًا جديدًا، أما النبي فيجيء في أمةٍ مؤمنةٍ لتجديد إيمانها، يذكّرها بعد النسيان ويقوّمها بعد الاعوجاج. ومن هؤلاء داوود عليه السلام، نبيٌّ ملكٌ جمع بين القوة والحكمة، لم يأتِ بشريعةٍ جديدة، بل جدّد شريعة موسى وأقام العدل في بني إسرائيل، كما قال الله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾. وكذلك إدريس وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وذو الكفل وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى، أنبياءُ في أمةٍ مؤمنةٍ، يوقظون القلوب من غفلتها لا يواجهون شركًا صريحًا. وهكذا كان النبيّ تذكيرا في أزمنة الإيمان، كما كان الرسولُ منقذًا في أزمنة الكفر، فتكاملت الأدوار واتصل النور.
ومن هؤلاء العشرة الذين جمعوا بين النبوة والرسالة كان نوح أول الرسل في التاريخ، أول من واجه الشرك بالوحي، حتى قال الله عن قومه: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾. وإنها لآيةٌ بليغة، لأن قوم نوحٍ لم يكذّبوا إلا رسولًا واحدًا، ومع ذلك قال الله “المرسلين”، ليبيّن أن الرسالة واحدة في جوهرها، وأن من كذّب نبيًّا فقد كذّب الجميع، لأن صوت الوحي واحد وإن اختلفت الألسن.
وفي بني إسرائيل نرى أعجب المفارقات: أمةٌ أكرمها الله بالكتب والأنبياء وفضلها على العالمين، ثم قتلت الأنبياء بغير حق. ومع ذلك، لم يُستأصلوا بالعذاب كما استؤصلت عادٌ وثمود، بل عوقبوا بالتاريخ لا بالهلاك، بالتيه واللعنة والفرقة. فقد جعل الله من بعضهم القردة والخنازير حين اعتدوا في حرمة السبت، وأبقى بقيّتهم عبرةً للناس، ليعلموا أن البقاء بلا بركة أشد من الفناء، وأن التيه عن الحق عقوبة لا تقلّ عن الطوفان.
إن الله لم يجعل الوحي نبتًا في صحراء، بل يغرسه في قلوبٍ طاهرةٍ هيّأها بالدعاء واليقين والعمل الصالح. فمن دعا كزكريا أكرمه الله بنبي، ومن آمن كلوط رفعه الله بالرسالة، ومن صدق كإبراهيم جعل الله في نسله النور إلى خاتمهم محمد ﷺ. فالوحي سلسلة استجابات لا مصادفات، والنور في الأرض امتدادٌ لنورٍ أزليٍّ في السماء.