بين الذكاء الاصطناعي وضمير الإنسان .. أين نقف ؟


الاحد 27 يوليو 2025 | 11:00 مساءً
بين الذكاء الاصطناعي وضمير الإنسان .. أين نقف ؟
بين الذكاء الاصطناعي وضمير الإنسان .. أين نقف ؟
مهند أدهم

كتبه - ناديه بن شريفه Nadia Ben Chrifa

في عصر تتسارع فيه الابتكارات التقنية، بات الذكاء الاصطناعي حاضرًا في تفاصيل حياتنا اليومية، بل وتسلّل إلى ميادين لم تكن تُفتح فيها الأبواب لغير العقل البشري، وعلى رأسها مجال التعليم والإنتاج الأكاديمي.

مؤخرًا، شهدت جامعة X حادثة أثارت جدلًا واسعًا: تبيّن أثناء مناقشة مذكرة تخرّج لأحد الطلبة أنها ليست من إنتاجه الشخصي، بل من عمل الذكاء الاصطناعي.

فانقسم أعضاء اللجنة العلمية بين من رأى أن ذلك انتهاك صارخ لقيم الأمانة والجهد، وطالب بالمنع الكلي للطالب، وبين من اعتبر أن الاستفادة من أدوات العصر لا تعني بالضرورة الغش، بل تستدعي إعادة التفكير في طرق التقييم وحدود الاستخدام.

هذا الحدث يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول حدود أخلاقية استخدام الذكاء الاصطناعي، وإمكانية تعويضه لوعي الإنسان، ومجالات توظيفه في القراءة والإبداع المعرفي.

في هذا المقال، نطرح أسئلة جوهرية نأمل أن تُسهم في فتح نقاش مجتمعي أوسع وأكثر وعيًا:

🔹 هل يعوّض الذكاء الاصطناعي وعي الإنسان؟

🔹 هل يُعدّ الاعتماد الكلي عليه في إنجاز المهام انتهاكًا أخلاقيًا؟

🔹 كيف يمكن استثماره في خدمة الفكر والقراءة دون أن نضيع هويتنا؟

🔹 وأين نقف نحن بين طرفَي الجدل: العقوبة الصارمة أم تقنين الاستخدام؟

السؤال الأول: هل يعوض الذكاء الاصطناعي وعي الإنسان؟

سأناقش هذا السؤال انطلاقًا مما درسته هذا العام في تخصص علم النفس النمو، حيث تطرقنا بشكل معمق إلى مفهوم السيرورة الذهنية باعتبارها إحدى اللبنات الأساسية في بناء الوعي الإنساني. وقد تبين من خلال هذا الدرس أن الوعي ليس معطى جاهزًا، بل سيرورة نفسية ومعرفية تتطور تدريجيًا، وتُبنى عبر التفاعل مع الذات والمحيط، وهو ما يميز الإنسان عن الآلة.

أطروحة تحليلية:

الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من تطور، لا يمكنه أن يعوّض وعي الإنسان، لأنه ببساطة يفتقر إلى جوهر هذا الوعي: الخبرة الذاتية والمعنى الوجودي.

ففي حين يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاة اللغة، وتحليل البيانات، وإنتاج المحتوى، يظل عاجزًا عن إدراك معاني ما ينتجه أو الشعور به.

يعرّف عالم النفس دانيال دينيت (Daniel Dennett) الوعي بأنه 'القدرة على تملك الخبرة الذاتية، وتفسير العالم من خلال منظور داخلي'، وهي خاصية لم تُبرمج في أي خوارزمية بعد. كما يشير عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو (Antonio Damasio) إلى أن الوعي مرتبط بالجسد والانفعال والتجربة الشخصية، وكلها أمور لا يملكها الذكاء الاصطناعي.

من منظور علم النفس المعرفي، يعتمد التفكير الواعي على آليات معقدة من الذاكرة والانتباه، إضافةً إلى القصدية، أي القدرة على النية والفعل الواعي، بينما تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على أنماط إحصائية وتوقعات دون أن 'تعرف' فعليًا ما تفعل.

وبالتالي، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يكون بديلًا عن الوعي البشري، وإنما أداة مساعدة له. فالآلة لا تُبدع، بل تُعيد تشكيل ما أُدخل إليها من معرفة، بينما الإنسان يخلق من التجربة والسياق معنى جديدًا.

خلاصة:

لا يعوض الذكاء الاصطناعي وعي الإنسان، لأن هذا الأخير يتضمن أبعادًا شعورية، وجدانية، وتجريبية لا تُبرمج. يمكن للآلة أن تحاكي، لكن لا يمكنها أن 'تعي'. لذا يظل الإنسان، بوعيه وسيرورته الذهنية، هو الحَكَم الأخير في استعمال أدوات العصر.

السؤال الثاني: هل الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بشكل كلي وتقديم العمل من خلاله فقط يُعد انتهاكًا للأخلاق؟

أطروحة تحليلية:

في الأصل، لا يُعد استخدام الذكاء الاصطناعي انتهاكًا للأخلاق، بل هو أداة من أدوات العصر الحديث، ووسيلة تعين الإنسان على الفهم، والتفكير، والإنجاز. لكن الخط الفاصل بين الاستعانة والانتحال دقيق، ويحدده القصد وطريقة الاستخدام.

في علم النفس الاجتماعي، يشير ألبورت (Allport) إلى أن السلوك الأخلاقي لا يُقاس بالفعل الظاهر فحسب، بل بالنية الكامنة وراءه، مما يجعلنا نركز على سؤال: هل الطالب يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعلّم والفهم؟ أم للتهرّب من الجهد والانتحال؟ هنا يتحدد الأخلاقي من غير الأخلاقي.

أما في الفقه الإسلامي، فإن النية معيار مركزي في الحكم على الفعل، استنادًا إلى الحديث الشريف: 'إنما الأعمال بالنيات...'، فالمتعلم الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي ليصوغ فكرة، ثم يعيد إنتاجها بفهمه واجتهاده، لا يُعد آثمًا ولا غير أخلاقي. أما من ينقل حرفيًا عملًا ليس له، وينسبه لنفسه دون وعي أو مجهود، فهو داخل في باب الغش، وقد ورد في الحديث: 'من غشّ فليس منا'.

علميًا، توصي اليونسكو في تقريرها حول 'أخلاقيات الذكاء الاصطناعي' (2021) باستخدام هذه التقنية وفق مبادئ الشفافية والمساءلة والعدالة. فالمشكلة ليست في الأداة، بل في السلوك البشري تجاهها.

خلاصة:

الذكاء الاصطناعي لا يُعد انتهاكًا للأخلاق إذا استُخدم بذكاء ومسؤولية. هو وسيلة للتمكين وليس للهروب من الاجتهاد. القرار الأخلاقي لا ينبع من التقنية، بل من النية والسلوك البشري. لذا، لا بد أن نعلّم أنفسنا وأبناءنا أن نستخدم الذكاء الاصطناعي بوعي لا بلادة، وأن نكون نحن العقول التي توجه الأداة، لا التي تستسلم لها.

السؤال الثالث: كيف يمكننا استغلال هذا الموقع في جانب القراءة؟

أعود دائمًا في تحليلي لما درسته خلال هذا العام الجامعي في تخصص علم النفس النمو، وتحديدًا في علم النفس المعرفي، حيث تناولنا كيف تتطور العمليات الذهنية لدى المتعلم، وكيف أن استخدام الوسائل الخارجية قد يكون إما محفزًا للنمو المعرفي أو معيقًا له، حسب نمط الاعتماد على تلك الوسائل.

أطروحة تحليلية:

الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن القارئ، لكنه قد يكون رفيقًا ذكيًا في رحلة الفهم والتحليل والتأمل، إذا أُحسن استخدامه.

لكن هناك من يعتمدون عليه اعتمادًا كليًا في تلخيص النصوص، وكتابة الانطباعات، واستخلاص المعاني، ثم يقولون مبررين: 'الذكاء الاصطناعي يخطئ'

وهنا أقول: الذكاء الاصطناعي لا يخطئ من ذاته، بل الخطأ في الاعتماد الكلي عليه دون وعي أو مراجعة.

من منظور علم النفس المعرفي، فإن التعلم الفعّال يتطلب نشاطًا ذهنيًا داخليًا، كالتأمل، والتحليل، والمقارنة، والتأويل. أما الاتكالية المعرفية فهي مؤشر على قصور في التطور الذهني، وقد تعرّضنا لذلك ضمن محاور النضج والاستقلالية في سيرورة الإدراك والفهم.

وإذا ما تم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة محفزة على الفهم لا كمصدر جاهز للفكر، فإنه يقدم خدمات ثمينة.

وقد تحدث فيغوتسكي عن أهمية 'منطقة النمو القريب'، أي أن يتلقى المتعلم دعمًا يساعده على تجاوز مستواه الحالي، وهنا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب هذا الدور، إذا تم توجيهه بذكاء ولم يُستخدم كبديل عن التفكير.

ومن المنظور الديني، فإن استخدام الأدوات المعرفية الحديثة يدخل ضمن شكر النعمة، لقوله تعالى:

'ولئن شكرتم لأزيدنكم...'، فحسن الاستخدام هو تجلٍّ من تجليات الشكر، أما سوء الاستخدام فهو تضييع لنِعَمٍ كان من الممكن أن ترفع المستوى المعرفي والذهني لصاحبها.

خلاصة:

الذكاء الاصطناعي نعمة إن أحسنا استعماله، وقمة الخطر إن استُخدم بكسل معرفي وغياب وعي. وهو لا يخطئ بحد ذاته، بل الإنسان هو من يُخطئ حين يتنازل عن جهده الذهني. القراءة الواعية لا تعني الاستغناء عن أدوات العصر، بل إدماجها بحكمة ووعي ونقد.

السؤال الرابع: مع أي دكتور أنت في رأيه؟ وما سبب ذلك؟

أنا مع رأي الدكتور الثاني، الذي دعا إلى معاقبة الطالب بطريقة تربوية (كالرسوب أو الاستبعاد) بدل المنع الكلي، لأن المنع التام فيه قسوة ومفارقة صارخة بين واقع الجامعة وقراراتها.

فالجامعة اليوم أصبحت تعتمد بنسبة تفوق 50% على التكنولوجيا، بل إنها تقيدنا بوجوب الاطلاع على دروس المواد من المنصة الرقمية، وتربط تقييمنا بمستوى إنجاز الكويزات الإلكترونية والتفاعل الرقمي، بل أكثر من ذلك، لا يحصل الطالب على شهادة تخرجه إلا بعد حصوله على شهادة تخرج رقمية من منصة روزيتا في بعض الجامعات.

إذا كنا نُحاسب الطالب على توظيفه لأداة تقنية في إعداد مذكرة التخرج، فلماذا يُطلب منه في المقابل أن يخضع كليًا للنظام الرقمي في مساره الدراسي؟

أليس من التناقض أن نُطيل أمد الاعتماد على التقنية في التلقين، ثم نرفض نتائجها في التحصيل؟

ثم إن التربية لا تقوم على الإقصاء التام، بل على تقويم السلوك وتعديل المسار. إن الطالب الذي اعتمد كليًا على الذكاء الاصطناعي قد أخطأ، نعم، لكنه بحاجة إلى توجيه لا إلى طرد.

من منظور علم النفس التربوي، فإن العقاب النافع هو ذاك الذي يحمل رسالة تعليمية لا انتقامية. والرسوب أو إعادة المشروع، مع تقديم توجيه حول الفرق بين المساعدة والانتحال، سيكون أكثر أثرًا من الطرد. فكما نقول في التربية: 'الغرض من التصحيح هو التعلم، لا الإدانة.'

خلاصة:

أنا مع رأي الدكتور الثاني لأن المعالجة التربوية للموقف أكثر اتساقًا مع واقع الجامعة الرقمي، وأكثر نفعًا للطالب على المدى البعيد. إننا نعيش في عصر لا يمكن فيه فصل التعلم عن التكنولوجيا، بل علينا أن نُعلّم طلابنا كيف يستخدمونها بوعي ومسؤولية، لا أن نلومهم على استخدام أداةٍ نحن من قدّسها وفرضها في النظام.

في هذا النقاش، لم أكن أنقل آراءً نظرية مجردة، بل اعتمدتُ بالأساس على تجربتي الخاصة كطالبة في علم النفس، وعلى ما يحيطني من واقع جامعي وتعليمي أعيشه يومًا بيوم.

كل طرح قدمته هنا نابع من وعي تراكمي، بنيته بين ما درسته في علم النفس النمو والمعرفي، وبين ما لمسته من تحديات حقيقية نواجهها نحن الطلبة في عصر تداخلت فيه الحدود بين الذكاء البشري والاصطناعي.

إن الذكاء الاصطناعي ليس هو العدو، ولا الطالب المخطئ هو الخطر الأكبر، بل الخطر الحقيقي هو أن نتعامل مع التحولات العميقة بعقل جامد أو قرارات قاسية لا تواكب الواقع.

علينا أن نُربّي على التمييز بين التمكين والتواكل، بين أن تستخدم الأداة لترتقي، أو أن تختبئ خلفها لتتهرّب من الجهد.

ممتنة لهذا النقاش الذي منحني فرصة لمساءلة نفسي، ولربط الدراسة بالواقع، ولإعادة النظر في مفاهيم أخلاقية نحتاج أن نُعيد تشكيلها بما يناسب عالمنا الجديد.

بين الذكاء الاصطناعي وضمير الإنسان .. أين نقف ؟بين الذكاء الاصطناعي وضمير الإنسان .. أين نقف ؟

اقرأ أيضا