أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، المسلمين بتقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلانية فإنها سبيل الأيقاظ، ونهج أولي النُّهى، وطريق أولي الأبصار، بها الأمن من العثار.
خطبة الجمعة
وقال فضيلته في خطبة الجمعة اليوم:' إنَّ النظر الثاقب، والفِكر الراشد، والبصيرة الواعية، والقلب السليم؛ كل أولئك ممَّا يبتغي أولو الألباب به الوسيلة إلى نيل المنى وبلوغ الآمال، والظَّفر بالمقاصد، والحظوة بالسعادة في العاجلة والعُقبى، فتراهم من أجل ذلك ساعين بكلِّ سبيل، متوسِّلين بكلِّ وسيلة، للتمييز بين الخبيث والطيب، والفصل بين الزبد الذي يذهب جُفاء، وبين ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وتجدهم مع قوة الباعث، وشدَّة الرغب، وكمال الطلب؛ قد أوتوا حظًا من هذا الحسِّ المُرهف، والتحرجّ الطَّهور، والإشفاق الوَجِل أن يُلفوا في بنيانهم الراسخ الذي شادوه شيئًا من الفتوق، أو بعضًا من الشقوق، التي تُفضي إلى تسرُّب شيءٍ قليلٍ ممَّا ادُّخِر فيه من كنوز الأعمال، وذخائر الباقيات الصالحات، التي صُرفت في جمعها نفائس الأيام، لأنهَّم يستيقنون أنَّ ذهاب الأقل مُؤذنٌ بذهاب الأكثر، والتفريط في اليسير باعثٌ على التفريط في الخطير، والاستهانة بالصغائر مَدرجةٌ إلى الوقوع في الكبائر، خاصةً إذا اجتمع إلى ذلك استخفافٌ بالأمور، واستدامةٌ لأسبابها، واستبقاء لأصولها، وتقاعسٌ عن تدارك الفارط، وجبر الكسر، وإقامة المُعوجِّ.
الباقيات الصالحات
وقال الدكتور أسامة خياط :' إن هذا الفريق اليَقظ الذي يدخر الباقيات الصالحات، لينهج هذا النهج الراشد، ويمضي على هذا الطريق المُستقيم، مُقتفيًا أثر هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، مترسمًا خطاه، مستمسكًا بهَديه، المبثوث في الصحيح من سُنَّته، والثابت من حديثه وسيرته، فمما صحَّ وثبت عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الحديث العظيم يُحدِّث به - عليه الصلاة والسلام - موردًا إيَّاه في صورةٍ استفاهميةٍ متفرِّدة، حَفِل بها الخطاب النبوي الكريم في حشدٍ وافرٍ من نصوصه الصحيحة الثابتة؛ لأنَّ فيها تنبيهًا للعقول، وشحذًا للأذهان، وتمكينًا للفَهم، وباعثًا على كمال الحفظ وتمام الضبط، فقد أخرج مسلَّم في صحيحه والترمذي في جامعه عن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: 'أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا؛ فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه؛ أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه؛ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ'.
وأضاف فضيلته:' إنَّه لتصويرٌ بديع، وبيانٌ رفيع، ومعالجةٌ دقيقةٌ بارعة، جمعت مقاصدها في خطابٍ جامع قلَّ عدد حروفه وألفاظه، وكثرت معانيه ومراميه، والمراد به كما قال أهل العلم: أنَّ هذه هي حقيقة المُفلس، وأمَّا من ليس له مال، ومن قلَّ ماله، فالناس يُسمُّونه مفلسًا، وليس هو حقيقة المُفلس؛ لأنَّ هذا أمرٌ يزول وينقطع بموته، وربمَّا ينقطع بيسارٍ يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنَّما حقيقة المُفلس هذه المذكورة في الحديث فهو الهالك الهلاك التام، والمعدوم الإعدام المُفظع، فتؤخذ حسناته لغرمائه، فإذا فرغت حسناته؛ أُخذ من سيئاتهم فوضعت عليه، ثم ألقي في النار؛ فتمَّت خسارته، وهلاكه، وإفلاسه.
وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أنه ليس عجبًا إذًا أن يعي أولو الألباب من هذا البيان النبوي الكريم أنَّ ما يرصده المرء من أعماله في دنياه، وما يدَّخره منها لأُخراه؛ موقوفٌ على شفا خطرٍ داهم، وهو الانتقاص منه شيئًا بعد شيء؛ حتى تذوي زهرته، وينضب معينه، ويجف أخضره، وينفد مخزونه في رُكامٍ مجموعٍ، وتحت أحمالٍ ثِقالٍ من حقوق العباد، الذين بغى عليهم في الحياة الدنيا بغير الحق، واستطال عليهم بغير القِسط، فقامت عنده للظلم سوق رائجة، وارتفعت بساحته للبغي رايات شاهدة، فكانت العاقبة عند ذلك إفلاسًا هو الإفلاس حقًا؛ لأنَّه لا ملجأ ولا منجى منه إلا بالإنفاق من العملة التي بدد، والرصيد الذي بعثر وسحب، والحساب الجاري الذي أغلق وأوقف، وأنَّى لمثل هذا المُفلس أن يستعيد شيئًا ممَّا فقد، وقد نفدت عُملة الحسنات، وفني رصيد الأعمال، ونضب معين الحساب الجاري من ذخائر الباقيات الصَّالحات.
تحذير في خطبة الجمعة
ودعا فضيلته في خطبته إلى الحرص على الباقيات الصالحات، والتحذير من البغي في الأرض بغير الحقِّ، والاستطالة على الخلق، بأي لون من ألوان الظلم، وفي أي صورة من صور العدوان، مهما كان الباعث عليه، و أياً ما كانت الذريعة الموصلة إليه، فبذلك تصان الأرصدة، وتحرس الذخائر، لتكون العدة في يوم الشدة، يوم اللقاء، يوم يقوم الناس لرب العالمين.